الرسائل المبطّنة في الإعلانات

الرسائل المبطّنة هي رسائل مرئية أو مسموعة تُقَّدم دون المستوى الشعوري والإدراكي للإنسان. بصورة أدق، عندما تشاهد مشهدًا يدور فيه حوار بين شخصين -في معظم الأحيان- ستتابع المتحدثين دون الانتباه كثيرًا لما هو حولهم أو خلفهم بصورة دقيقة أو بشكل فعلي، إلا أن عقلك الباطن سيلاحظ ويأخذ المقطع بكل مايحتويه. أي أن إدراكك لهذه الأجسام/الخلفيات هو خارج حيز ومساحة شعورك الفعلي. في تعريف آخر أقل شمولية، يذكر أن الرسائل المبطّنة هي الرسائل المكتوبة التي تظهر لفترة قصيرة جدًا (لاتصل لثانية) على الشاشة دون إعطاء المشاهد فرصة لاستيعابها بشكل فعلي.

تُستخدم الرسائل المبطنة كثيرًا في الفن بكل أنواعه (مرئي ومسموع) وتبعًا لذلك، تستخدم في الدعاية والإعلان بشكل متعمد، بل إن هناك جزء كبير من النقد الفني مختص بتحليل هذه الرسائل والإسهاب فيها.

قد تتشعب هذه الرسائل لتستهدف جميع الحواس دون الاقتصار على السمع والبصر. في عام ٢٠١٢م، اشتهرت حملة دانكن دونت ”الراديو المنكّه“ في كوريا الجنوبية والتي تكوّنت من التالي: إعلان موسيقي عن قهوة دانكن دونت على الراديو، رائحة القهوة تنتشر في الباص، يتوقف الباص وينزل الركّاب ليجدوا المحل أمامهم فورًا. ارتفعت بعد هذه الحملة الزيارات لفروع دانكن الموجودة في محطات الباصات بنسبة ١٦٪ وبشكل عام، وجدت الشركة ارتفاعًا في مبيعات القهوة بنسبة ٢٩٪.

إلا أن دانكن ليست أول ولا آخر شركة تستخدم الرسائل المبطّنة في تسويقها، فقد سبقهم بها الكثير، يُذكر أن أول استخدام فعلي للرسائل المبطنة -في تعريفها الضيّق- كان في عام ١٩٤٣ ضمن فلم كرتوني قصير ”دفي دك“، حيث ظهرت رسالة ”اشترِ صكوك“.

بعد هذا الإعلان -في عام ١٩٥٧م- نشر جيمس فيكري وفرانسس ثاير دراسة ادّعوا فيها أن استخدام جملتي ”تناول الفشار“ و ”اشرب كوكا كولا“ بشكل مبطّن من خلال إظهارها لفترة وجيزة خلال فلم في السينما قد زاد من مبيعات الفشار بنسبة ٥٨٪ ومن نسبة مبيعات كوكا كولا بنسبة ١٨٪. بعد نشر هذه الدراسة، تصاعد قلق عامة الناس حول تأثير الرسائل المبطنة على خياراتهم خلال أنشطة حياتهم اليوميّة -وعلى صعيد أكبر- تأثيرها على قراراتهم المصيريّة. إلا أن هذا القلق بُني على باطل، حيث اعترف جيمس فيما بعد أن الدراسة لم تكن إلا بهتانًا وبيانات مغشوشة حاول من خلالها التسويق لشركته الإعلانيّة.

يقودنا هذا إلى سؤال أكبر: هل تؤثر هذه الرسائل على وعينا الشخصي فعلًا؟

يقول فيليب ميريكل -عضو هيئة تدريس في قسم علم النفس/جامعة ووترلو- أن الفرد قادر على تلقي معلومات هدفها قيادة تصرفاته والتأثير على قراراته دون وعيه حتى لو لم يدرك تلقيه لهذه المعلومات بشكل فعلي. إذًا، استهلاكنا وتلقينا قد يتأثر دون وعينا.

في جانب آخر، قد يكون الهدف من هذه الرسائل المبطنة إيصال فكرة أو معتقد معيّن بعيدًا كل البعد عن قرارات المستهلك المباشرة. كثيرًا مانجد هذا الهدف في مجال التصميم الجرافيكي ومجال الشعارات بشكل أدق. لعل شعار شركتي أمازون وفيدكس من أكثر الأمثلة انتشارًا. فيدكس ضمّنوا سهمًا بين حرفي الـ”E“ والـ“x“ في نهاية مسمّاهم، مشيرين إلى سرعتهم في التوصيل. بالنسبة لأمازون، فالسهم أسفل المسمّى -والذي يبدو كفم مبتسم- يبدأ من حرف a -أول الحروف الإنجليزية- وينتهي عند حرف z -آخر الحروف الإنجليزية-، مشيرين إلى اتسّاع دائرة منتجاتهم وخياراتهم فهي تغطي احتياجاتك من أولها لآخِرها.

وفي مجال ينتقل من الدعاية والإعلان، يعتبر المخرج السينمائي الأمريكي ستانلي كوبرك من روّاد استخدام الرسائل المبطنة في أفلامه بشكل عام. ففي فلم ”البريق“ المبني على كتاب الروائي ستيفين كينق، يبتعد ستانلي عن سرد ستيفين الوصفي ليكون محيطًا بصريّا وحسيًا خاصًا به. يتفرد ستانلي بإخراج يترك المشاهد في حالة من الذهول العاطفي وعدم القدرة على تمييز أو تحديد مشاعره بصورة دقيقة، ولعل تفرّده هذا أثار غضب ستيفن كينق حيث شعر ستيفن أن ستانلي لم يحترم أسلوب ستيفن الروائي ولم يعر له اهتمامًا عندماا انتقل بالراوية إلى السينما. يحكي ”البريق“ قصة جاك وويندي وابنهما داني عندما انتقلوا جميعًا لفندق تيمبرلين لوج والذي يخلو من الزوار خلال فترة الشتاء، حيث كان الهدف من انتقالهم هو إدارة جاك للفندق حتى نهاية فصل الشتاء بالإضافة إلى تركيزه على كتابته. تأخذ الأحداث مجراها، فللفندق قصة جريمة سابقة لم تختفِ آثارها تمامًا. إلا أن رسائل كوبرك تجاوزت الفندق وأحداثه لحياته الشخصية وتاريخ الولايات المتحدة.

ألهم ”البريق“ السينمائي رودني آسش لعمل وثائقي مدته ١٠٢ دقيقة يحلل فيه رسائل كوبريك خلال هذا الفيلم ويفسّرها تفسيرًا دقيقًا. ولعل جزءًا لا بأس به من رسائل فيلم ”البريق“ كان مخصصًا لدور كوبريك في مقطع وضع العلم الأمريكي على سطح القمر في رحلة أبولو ١١، وهو مقطع شكك الكثير في مصداقيته. يعتقد رودني أن كوبرك استغل تفاصيلًا عديدة في الفيلم للاعتذار عن دوره في هذا المقطع، ففي مشهد من المشاهد، نجد جاك يوبّخ ويندي -زوجته- على عدم تقديرها لدوره كموظّف تابع لجهة وملتزم لهم ومعهم بعقدٍ قانوني لايمكنه مخالفته. كما يشير رودني إلى رقم الغرفة ”٢٣٧“ وهي الغرفة الأكثر شهرة في الرواية، إلا أن رقم الغرفة في الرواية هو ٢١٧ ويدّعي كوبرك أنه غيّر رقم الغرفة بناءً على طلب إدارة الفندق حيث أن الفندق يحتوي على غرفة ٢١٧. يقول رودني أن ٢٣٧ هو متوسط بعد الأرض عن القمر، وأن اختيار كوبرك لهذا الرقم تحديدًا لم يكن محض صدفة ولم يكن لكون الفندق لايحتوي على غرفة بهذه الرقم، فقد كان بإمكانه أن يختار أي رقم آخر عشوائي.

تحدث روني بعد ذلك عن تفاصيل أخرى متعلقة بهذه الرحلة، ولعل أبرزها هو كنزة الطفل داني والتي تحمل بصريح العبارة مسمّى هذه الرحلة مع صورة لصاروخ فضائي.

وآخر ما أشار إليه، هو نمط السجادة التي غطت الطابق الذي كانت فيه غرفة ٢٣٧ والمشابه لشكل منصة إطلاق صاروخ أبولو ١١

قد يبدو كل ماذُكر أعلاه كنظرة مذعورة لمصادفات، وقد تكون رسائل مُستخدمه بشكلٍ متعمد. إلا أن خلاصة هذا التحليل لهذا الفلم تحديدًا هو أن رسائل كوبرك كان وسيلة يعبّر بها عن نفسه ضمن عمل الآخرين. وفي هذا نستخلص أن الرسائل المبطّنة تتجاوز الغاية التسويقية المحضة لتكون منفذًا وحيدًا يعبّر بها الفنان أو المنتج عن نفسه ضمن زخم حسي. وآخر استشهاد نستشهد به في مجال تعريف الذات وسط الزحام من خلال الرسائل المبطنة هو قصة طلاب جامعة كالفورنيا للفنون، حيث يعتمد طلّابها ممن يعملون في مجال الفنون المرئية على تضمين ”A113“ في جميع أعمالهم، وهي رسالة يستخدمونها للتعبير عن انفسهم وعن المجموعة التي ينتمون إليها. يقول دكتور علم النفس إيان زيمرمان أن الفرق بين الأبحاث السابقة التي تنفي تأثير الرسائل المبطنة على وعينا وقراراتنا، والأبحاث الحالية التي تثبت هذا التأثير -بصورة بسيطة- هو إدراك علماء النفس الآن لأهمية ارتباط الرسائل المبطنة بالاحتياجات والأهداف الحالية، بالإضافة إلى أن المؤثر الحسي المستخدم لابد أن يكون تأثير دون حيز شعور الفرد (أي أن إدراكك لوجود هذا المؤثر شيء، وإدراكك لتأثيره المباشر على قراراك شيء آخر). بشكل عام: الإعلانات والمشاهد التي تستخدم رسائل مبطنة قادرة على التأثير على الفرد، إلا أن تأثيرها لم يُدعم بدراسات تثبت قوّته ومدى أثره الفعلي. يختم الدكتور إيان مقالته حول تأثير هذه الرسائل بقوله: ”لاتقلق من تأثير الإعلانات على قراراتك الإستهلاكية، لأنه في معظم الأحيان، مدى هذا التأثير سيجعلك تشتري أشياء كنت تعزم على شراءها -ولو بنسبة بسيطة- من الأساس“.