تغيرات مفهوم العمل بين الأجيال

إذا كنت قد ولدت في الفترة الواقعة بين 1950 و1970 ميلادية ستعرف إلى حد ما شكل مستقبلك وطبيعة عملك وحياتك، فالحياة محددة المسارات، وواضحة المعالم، ولا تحتاج قواعدها لنقاش طويل، وظيفة العمر، شريك العمر، بيت العمر، سيارة العمر، إلى آخر الخيارات محددة إلى حد ما، وهي الأصل أما الخروج عنه فهو الاستثناء

أما إن كنت قد ولدت في الفترة الواقعة بين 1980 وحتى 2000 ميلادية فستعرف حتمًا أن هذا المفهوم قد تغير، وقد أخذ العمل أشكالًا جديدة عوضًا عن أشكاله السابقة، ومع تزايد الاتجاهات الفردية صار الانضواء تحت جماعة كبيرة ليس مغريًا إلى ذلك الحد

ستبدأ في البحث عن الفرص
المطروحة، قد تعمل جزئيًا أو مستقلًا أو تنشئ عملك الريادي، أو تبحث بشكل جدي عن
مكان عمل يوافق طموحك وماترغب، لا وظيفة توفر لك حياة لائقة فحسب، وأصبح التساؤل
المهم، ماذا يعنيه لي هذا العمل؟

دمقرطة أماكن العمل

من أساليب مواجهة الرأسمالية التي تستهدف الربح الخالص، الاتجاه نحو الاقتصاديات التشاركية، من خلال أعمال الريادة الاجتماعية، فقد وجدت الأعمال التعاونية رواجًا بين الشباب المعاصرين، عبر جعل بيئة العمل أقل تراتبية، وأكثر ديموقراطية باتجاه الإدارة الذاتية أكثر فأكثر، فيعمل الموظفون في فرق مستقلة بشكل متزايد، ويتفاعلون مع الآخرين في منظماتهم بطرق أقل شيوعًا من قبل، وفي الكفة الأخرى فإن التفاعل مع الجمهور أخذ يتزايد في محاولة لعدم تنفيذ مبدأ الربح لأجل الربح، بل صار المبدأ الربح لأجل المتعة والفائدة وترك التأثير

في الحقيقة إن رفاهية العمل الحالية لم تكن لولا وجود التكنولوجيا كذراع مهم لكافة الأعمال، والمنصات التي توفر فرصًا لتقديم الخدمات، وتجمع بين المستفيد ومقدم الخدمة، ولقد ساعدت ولازالت تساعد على انطلاق العديد من الأعمال الريادية في كل يوم حول العالم، إن الإنترنت عنصر حاسم في تمكين الناس من الانتقال إلى العمل لحسابهم الخاص، بتوفير أنظمة وخدمات متكاملة محاسبية، وإدارية وتجهز بذلك فريقًا متكاملًا لمؤسسة فردية

بناءً على ذلك يختار الموظفون الآن التحول بصورة متزايدة إلى ريادة الأعمال الصغيرة كبديل للعمل، وصارت أعمال الريادة الاجتماعية الصغيرة ومتناهية الصغر وحتى التي تعد ضخمة ظاهرة يحكى فيها سلسلة من القصص الملهمة، كون نسبة المخاطرة فيها عالية، وذات مفهوم تنظيمي جديد، وتتطلب جهدًا كبيرًا لإنشائها، إلا أنها شيئًا فشيئًا تأخذ صورة نمطية متكررة، وعملًا غير إبداعي بالمرة وإنما طبيعي ومفهوم بشكل كبير

بالتأكيد لن تكون التكنولوجيا أو ثقافة ريادة الأعمال واتباع الشغف وحدها هي من يحدد شكل العمل الجديد، فدور الاقتصاد جوهري في نشوء وتشجيع هذه الأعمال، فالأعمال الصغيرة والمستقلة تستخدمها الأنظمة لمواجهة الأزمات الاقتصادية والحد من البطالة، وتأثير الاقتصاد العالمي دفع بالدول المتقدمة وغير المتقدمة إلى دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة لحل مشاكلها الاقتصادية، وتنمية اقتصاد مستدام، نحن لا نتحدث عن عمل ريادي ضخم، بل عمل ريادي صغير شبه فردي، يعتمد بالكامل على التكنولوجيا ويعتمد عليه عالميًا للوقاية من الأزمات الاقتصادية، وخلق الوظائف بدلًا من البحث عنها

كما ذكر فرانشيسكا بيك ( FRANCESCA PICK) في مقاله المفهوم المتغير للعمل في القرن الواحد والعشرين ( CHANGING CONCEPTS OF WORK IN THE 21ST CENTURY) عن جلسة نقاشية في أسبوع وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان ( طريقة الخروج من الأزمة : استقل من وظيفتك وقم بإنشاء شركة) ناقش أربعة متحدثين لماذا قرروا إعطاء ظهورهم لحياة تقليدية واستخلصوا بعد ذلك أن مرورهم بالأزمات الاقتصادية التي أفقدتهم أعمالهم الثابتة لم تمنحهم أمانًا أكبر بل بالعكس، لقد منحهم العمل المستقل سيطرة على زمام أمورهم، لدفع الفواتير وشراء الطعام نهاية كل شهر، وإضافة إلى ذلك فلم يعد عملهم عملًا فقط، بل حياة مليئة بالمعنى

لم تتغير طبيعة العمل والعوامل الخارجية فقط، بل تغيرت رغبات الناس اتجاهه، وتغير مفهوم العمل لديهم من مصدر دخل إلى وسيلة للتأثير في المجتمع والاقتصاد والعالم، وحتى الشركات الكبرى اتخذت ذات النهج وركزت على تأثير الأفراد فيها فاتجهت إلى خلق أنظمة أكثر حريةً وانطلاقًا يعبر فيها الموظفون عن أفكارهم ويعملون بطرقهم الخاصة، ووضعت رفاهية الموظفين لديها في صميم سياسة الشركة، والشكر في ذلك كله يعود إلى جوجل والشركات الكبرى التي غيرت ثقافة المكاتب الأميركية والعالمية التي تعمل بها الشركات في العقد الماضي، وأصبحت أماكن العمل حتى الكبرى منها افتراضية، لا مركزية، وأقل تراتبية، وتركز على الإبداع والرفاهية

إن تغير مفهوم العمل وتطلعات الأفراد نحوه بقدر ما يوقع سوق العمل في أشكال غير مفهومة بالكلية ويحتمل نسبة أمان أقل من غيره غالبًا إلا أنه يفتح أفاقًا واسعة لمن يريد إيجاد عمل جانبي أو عمل أساسي، وهذه الفرصة -فرصة استثمار الهواية أو الموهبة- تشرع الباب أمام احتمالات أكثر صمودًا في مستقبل الأتمتة، فالعمل التقليدي المتعلق بتقديم الخدمات الأساسية لا يتطور نحو الإبداع بل نحو الكفاءة، وبذلك فإن البديل المحتمل لمن يعمل في هذه الأعمال هو آلة أكثر كفاءة ودقة، وبذلك فقد يخسر عمله بالفعل من لا يستثمر بموهبته في المستقبل القريب، أو يعمل بتقنية تتصل بهذه الآلات وبرمجتها، هذا المستقبل الذي يصفه  أندرو مكافي (Andrew Mcafee) بشكل مشرق في حديث له على منصة تيد: “هذا يعطينا الفرصة لتخيل مجتمع مختلف، حيث المبدعون، والمستكشفون، وفنانو الأداء، والمبدعون، يقفون جنبًا إلى جنب مع مدرائهم والممولين، للحديث عن القضايا، والترفيه، والتنوير، واستفزاز بعضهم البعض، إنه حقًا مجتمع مشابه لمؤتمر TED”

مفهوم العمل الحديث لم ينشأ إلا بسبب الظروف التي عاصرها، لو أراد ذات الشخص الذي ولد  في الفترة الواقعة بين 1950 و 1970 أن يتخذ خطوة مشابهة التي يتخذها الموظف الآن – أي أن يستقيل من وظيفته ويعمل على شغفه- لعدت صفاقة فعلًا لأن الظروف التي توفرها التكنولوجيا المتطورة والاحتياجات المتغيرة للأفراد والشركات والدولة بإطارها العام مختلفة كليًا، أي أن العقد الاجتماعي تطور خلال فترة وجيزة بشكل غير متوقع، ولن يستطيع ذات الشخص الذي تحدثنا عنه أن يتخذ هذه الخطوة بشكل خاص إذا كان يعيش في دولة تمر بفترات إنشائية للبنية التحتية أو يحاول السوق الاقتصادي جاهدًا أن يستقل ويقف على قدميه فهذه العوامل ستقف سدًا منيعًا أمام إبداع الفرد ولن تفرغه لأن يقوم بذات النشاط لأن الوقت ببساطة ليس مناسبًا، أما الآن فإن الوقت مناسب جدًا لابتكار نوع جديد من الأعمال، ويمنح الأمان والثقة اللازمة لكل من يجد في نفسه الفرصة للقفز في هذا المجال وإبتكار عمله أو شركته الجانبية أو الأساسية المتسقة مع المفهوم الجديد للعمل

وكما قلنا سابقًا فإنه في المستقبل القريب وبسبب العوامل السابقة وتطور الذكاء الصناعي ستكون الفنون والأعمال الترفيهية هي القطاع الأكبر، أما الأعمال الأكثر مللًا فستترك للآلات حتى تنجزها بكفاءة، فالكفاءة في العصر الجديد للآلات والشغف للإنسان